بصفتي كاتبة ومتابعة في شؤون الاقتصاد والأعمال التجارية، شاهدت تأسيس مئات الشركات الناشئة، وقمت بتحليل النقاط التي تؤدي إلى نجاحها أو فشلها. ومن خلال هذه الدراسة الممتعة، وجدت أن مصير تلك الشركات يعتمد في الغالب على ما إذا كان صاحب المشروع قد سأل نفسه هذه الأسئلة:
هل أقدم حلًا لحاجة حقيقية Real Need أو مجرد حاجة مُتصورة/مدركة Perceived Need؟ وإذا كُنت أقدم حلًا حقيقيًا، فهل تفوق تلك القيمة مشكلة التغييرات السلوكية للعميل؟
يتمتع رواد الأعمال Entrepreneurs، بميزتين متميزتين على الأقل، وهما: شغف لبدء الأعمال التجارية وشغف لحل المشاكل. لسوء الحظ، في بعض الأحيان يضغى الأول على الأخير، وتتكون الشركات تحت التصرّف الخاطئ في إطار الفعل المضاد للتوتر.
خاصة في مجال التكنولوجيا، قد يكون من المغري للغاية اتخاذ أي خدمة فعالة ورقمنتها. تبدأ هذه المحاولات عادةً بفكرة مثل “لن يكون الأمر ممتاز وأكثر سهولة إذا ما تم …” ثم بعد عدة أشهر نجد هناك تطبيق رقمي App يفعل ذلك.
المشكلة هي أنه في حين أن الفائدة الكبيرة من شيء ما يمكن أن تكون مثيرة للاهتمام أو ممتازة ورائعة، فإن الكثير من رواد الأعمال لا يضعون أنفسهم في ماهية العمل؛ لتحديد ما إذا كانوا يعالجون حاجة حقيقية للمستخدم أو مجرد حاجة مدركة صاغها رائد أعمال خيالي مبدع.
لذا، عليك قبل تحويل أي أموال إلى مشروع تجاري جديد، استثمار بعض الوقت والطاقة في تقييم ما إذا كنت تخاطب حاجة حقيقية أم لا.
الحاجة هي نقص لدى الإنسان يحول بينه وبين هدف ما أو شعور ما، مثل الجوع هو حاجة للطعام، العطش هو حاجة للشرب، حاجة التواصل أو الوصول لمكان ما. كل هذه حاجات.
الحاجة المدركة/المُتصورة Perceived Need وهي الحاجة التي يعتقد ويتخيل المستهلك/الزبون/المستخدم أنه في حاجة للحصول عليها. أي مجرد تخيل.
في حين أن الحاجة الحقيقية Real Need ما هي إلا نقاط العناء أو الصعوبات أو العراقيل التي يمكن تحديدها نوعيًا وكميًا وإثباتها بواسطة عينة كبيرة من المستهلكين. أي أنك تكون فيها أمام مشكلة.
ويمكن أن تكون شيئًا واضحًا، مثل كم المتاعب عند استئجار الأفلام وإعادتها إلى المتجر مرة تانية، أو شيء غير واضح لا يعرفه المستخدم إلا بأثر رجعي، أي بمجرد وجود حل بالفعل. مثال جيد على هذا الأخير هو iPhone، حيث لم ندرك كم نحتاجه حتى نحصل عليه.
في كلتا الحالتين، يمكن إجراء بحث سوقي للتعرف على هذه النقاط، كونها نقاط عناء كبيرة ومميزة، ولا تتوفر حاليًا حلول مقبولة لها.
ولابد أن يقوم الحل الذي تقترحه بتقديم قيمة حقيقية ملموسة وواضحة للعميل. غالبًا ما يتحقق ذلك إذا ما ساعدت العميل في حل مشكلة تؤرقه، أو قمت بتلبية حاجة حقيقية أساسية ملحّة لديه.
لكن الأهم من ذلك، يجب أن يتم تقييم الحل المقدم، والتأكد من أن له قيمة تفوق بشكل كبير أي مساوئ وتغييرات في سلوك المستهلك، وهذا التقييم هو ما يتم تخطيه في كثير من الأحيان من جانب رواد الأعمال، بما يؤدي إلى تعريض الشركة للمخاطر.
يذهب تقيم المستهلك في مرحلة ما بعد الشراء والاستخدام على تحديد ما إذا كان قد حصل على القيمة المطلوبة من عدمه. والقيمة هي المقارنة بين المنافع التي تم الحصول عليها من المنتج سواء كان السلعة أو الخدمة أو حتى التطبيق الإلكتروني مع التكاليف التي تحملها المستهلك في سبيل الحصول على السلعة.
وعليه يمكننا تعرف قيمة المستهلك Customer Value بأنها الفرق بين مجموعة من المنافع والتكاليف المرتبطة بشراء واستخدام المنتج.
وتتمثل المنافع التي يحصل عليها المستهلك من جراء شرائه لسلعة أو خدمة معينة في أربعة منافع، وهي:
1- منافع وظيفية: وهي تلك المنافع الملموسة التي يحصل عليها المستهلك نتيجة شراء واستخدام منتج معين. فشرائك سيارة معينة يشعرك بالراحة من عناء المواصلات، وتناولك وجبة في أحد المطاعم يمدك بالطاقة، وينهي شعور الجوع لديك.
2- منافع اجتماعية: وتتمثل في ردود الفعل الايجابية التي يتلقاها الفرد من الأخرين عند شرائه للمنتجات أو الخدمات. فالقبول والاستحسان الذي يتلقاه الفرد من أصدقائه ومعارفه عند قيامه بشراء منتجات معينة واستمتاع الأخرين يمثل منافع اجتماعية.
3- منافع شخصية: وتنصرف إلى المشاعر الطيبة التي تسيطر على الفرد عند شرائه وتملكه واستخدامه منتجات وخدمات جيدة. فهواة جمع التحف القديمة يستمتعون بتملكها، وهواة جمع الطوابع القديمة يشعرون بسعادة من حيازتها، وإن لم تكن صالحة للاستخدام في مجال البريد.
4- منافع الخبرة: وهي التمتع الحسي الذي يحصل عليه المستهلك نتيجة شراء واستخدام المنتجات أو الخدمات التي تحقق المنفعة. فالأطعمة اللذيذة والملابس المريحة والقوارب البخارية واليخوت، كلها تعد أمثلة.
أما التكاليف فتشير إلى مجموعة من التكاليف تتمثل في ما يلي:
1- تكاليف نقدية: وهي المبلغ من المال الذي يدفعه المستهلك في مقابل الحصول على المنتجات أو الخدمات.
2- تكاليف الوقت: وهي الوقت الذي يقضيه المستهلك في الحصول على السلعة أو الخدمة.
3- تكالف سيكولوجية: وهي تعبر عن الطاقة الذهنية والضغوط التي تصاحب اتخاذ قرار شراء هام، وكذلك تحمل المخاطر المرتبطة باحتمال عدم الحصول على الأداء المتوقع من المنتج أو الخدمة.
4- تكاليف سلوكية: وهي التغييرات السلوكية المصاحبة للحصول على المنتج أو الخدمة، مثل السير لمسافات طويلة، والإنتقال من مكان لأخر، أو الانتظار لفترات طويلة للحصصول على المنتج أو الخدمة.
ويعد مفهوم القيمة ذو أهمية خاصة لرواد الأعمال، حيث أن نجاح الشركة في تقديم الجودة المتوقعة، واشباع احتياجات المستهلك مرهونًا بتقديم القيمة المتوقعة للمستهلك.
فعندما تزداد قيمة المستهلك يكون اكثر رضا عن المنتج، والمستهلك الراضي يكون أكثر ولاءًا للمنتج والشركة الناشئة، ويكون أكثر احتمالًا لأن يقيم علاقات طويلة الأجل مع الشركة.
والواقع يقول أن رواد الأعمال وأصحاب المشاريع الخاصة يمكنهم العمل على زيادة القيمة التي يحصل عليها المستهلك من خلال التركيز على جانبي معادلة القيمة، ألا وهي التكاليف والمنافع، وذلك من خلال محاولة زيادة المنافع، أو تقليل التكاليف.
ماذا لو بادرتك رغبة مُلحة لشرب كوب من عصير البرتقال اللذيذ؟ بكُل سهولة ستكون أمام عدة خيارات، كأن تقوم بعصر البرتقال بنفسك، أو ستتوجه لمكانك المفضل لشرب كوب من العصير، أو ستحصل على عبوة عصير برتقال من أقرب متجز بقالة إليك.
وهُنا قررت شركة ناشئة تُدعى Juicero في عام 2013 التدخل السريع لتقديم حل مناسب لتلك المشكلة، عبر تقديم منتج مبتكَر يعمل على تغيير حياة مستهلكي الخضراوات والفاكهة جذريًا، ويغير من مفهوم العصّارة التقليدية إلى الأبد.
وذلك بعدما عرضت عصّارة للخضراوات والفاكهة يمكنها الاتصال بالإنترنت، تعمل من خلال اتصال عبر WI-FI تستخدم عبوات تستعمل لمرة واحدة، وتُباع حصريًا من قِبل الشركة عن طريق الاشتراك الشهري في خدمتها، وتصلك شحنة منها أسبوعيًا، مقابل 400 دولار للآلة الواحدة، بالإضافة لقيمة الاشتراك.
ولكن صدر تقرير عن Bloomberg كشف أنه بمقدورك الحصول على عصير أفضل بالعصر اليدوي مقارنة باستخدام العصّارة، كما يمكنك استخراج العصير إن ضغطتَ على العبوة دون الحاجة إلى جهازهم عالي التقنية والغالي، وهذا ما جعل الجهاز عديم الفائدة، وأثار سخرية مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي.
العصّارة كانت تحل مشكلة موجودة حقًا، لكنها مشكلة سهلة وبسيطة ولها بدائل حل متعددة ومتنوعة، ولا تحقق تلك الكلفة العالية المتمثلة في 400 دولار ثمنًا للعصّارة وبالإضافة لقيمة الاشتراك الشهري، كما إن تلك الحلول لا تستلزم تغيير العادات السلوكية كما تفعل Juicero.
تخيل اشتراكًا شهريًا للحصول على عبوات عصير، تصلك سلسلة امدادات من شحنتها اسبوعيًا. هل تستحق تجربة صنع عصير كُل هذا العناء؟!
وفي نهاية المطاف، أغلقت الشركة أبوابها، وانسحبت من السوق في عام 2017، وهي تعصر آخر قطرة من كرامتها المهدرة.
الخلاصة، عند التفكير في مشروع جديد أو تكنولوجيا جديدة أو غير ذلك، من الضروري جدًا أن تأخذ الوقت الكافي للبحث في جوهر حاجة المستخدم الحقيقية، والتحقق من صحتها من خلال اجراء بحث سوقي؛ للتأكد من أن منتجك القادم يقدم منافع كبيرة ستتحقق للمستهلك مقارنة مع أي عيوب والتغييرات السلوكية المطلوبة. هذه هي وصفة النجاح.