صناعة الشوكولاتة عالم خاص، يتضمّن مراحل عديدة قبل وصول المنتج إلى المستهلك النهائي. ولا يخفَى على أحد أنّ الرهانات المالية عليها هائلة: 100 مليار دولار سنوياً. هكذا، يُحسب للشوكولاتة، التي أدخلت البورصات، ألف حساب في اقتصاديات بلدان عديدة، منتجة للمادة الخام (الكاكاو)، أو مستهلكة للشوكولتة المصنعة.
مُحبّو الشوكولاتة، في أنحاء العالم، يمكن عدهم بمئات الملايين. لا عجب إذن أن تشكل حبات بقل الكاكاو، مادة الشوكولاتة "الخام"، ثالث غلة زراعية مستهلكة في العالم، بعد السكر والقهوة. وتستأثر الولايات المتحدة الأميركية، وحدها، برُبع الشوكولاتة، ومشتقات الكاكاو الأخرى، التي تصنع سنوياً في العالم. تليها ألمانياً، بنسبة 11 في المئة، ثمّ فرنسا وبريطانيا (7 في المئة لكل منها)، وروسيا (6 في المئة). والـ44 في المئة المتبقية لمجموع بلدان العالم الأخرى. لكن، لو أجرينا حساباً لكمية الشوكولاتة المستهلكة للفرد الواحد، نجد أنّ السويسريين أكثر من يتناولون الشوكولاتة، بمعدل أكثر من 12 كيلوغراماً سنوياً للسويسري الواحد. يعترض بعضهم على ذلك الرقم بالقول إنّه يشمل أيضاً ما يشتريه الجيران، الذين يأتون من فرنسا وإيطابيا وألمانيا والنمسا للتبضع، فيقتنون كميات لا يستهان بها، نظراً إلى سمعة الشوكولاتة السويسرية المرموقة، ولكونها أقل كلفة في سويسرا من بلادهم.
- مخزن الغلال:
لكن، أياً كانت معدلات استهلاك هذا وذاك، ثمة حقيقة جديرة بالتأمل، وهي أن ثلثي الأرض الجنوبيين يشكلان مخزناً للغلال، ومستودعاً للمواد الأولية، يزرعانها أو يستخرجانها لكي يأكلها الثلث الشمالي، أو يُصنعها أو يحرقها للتدفئة وإنتاج الطاقة. وحبات الكاكاو، مادة الشوكولاتة الأولية، لا تحيد عن تلك القاعدة. فسعر المادة "الخام"، متمثلة في الكاكاو، تافه قياساً بثمن علب الشوكولاتة المغلفة الأنيقة، التي تصل إلى طاولات المستهلكين المنعمين في بلدان الثلث الشمالي. والشوكولاتة دخلت بيوت العالم "المتمدن"، وبورصاته، وباتت جزءاً من حياته اليومية، بالتالي تشغل خانة مهمة في قوائم الاقتصاديات الكبرى، تحسب لها الأوساط المالية حساباً يليق بمقامها، الذي يُسيّل لعاب المضاربين والصيارفة والصناعيين وكبار التجار والوسطاء والموزعين وأصحاب شركات الإعلان.
- طقوس:
في أوروبا وحدها، تطاول مبيعات الشوكولاتة السنوية الـ30 مليار دولار. فالشوكولاتة، عند الغربيين أشبه بـ"البقلاوة" و"الزلابية" عندنا، يكثر استهلاكها قبيل وأثناء وبعيد بعض الأعياد. وتقليد "بيض القيامة" يؤمن مناسبة للأطفال للتهافت على الحلويات البنية الشهية. إذ ينصبّ الطقس السنوي على تخبئة عدد من قطع الشوكولاتة، صغيرة وكبيرة، على شكل بيضاوي، ليلة "عيد القيامة". وصباح العيد، الذي يصادف دوماً يوم اثنين، عموماً في شهر إبريل (نيسان)، يهرع الأولاد للبحث عن "البيض" في أنحاء البيت. ويحظى به مَن يجد المخبأ قبل غيره. في المقابل، في أكثر البلدان المنتجة، لا تسيل الشوكولاتة اللعاب، إنما عرق العاملين في مزارع الكاكاو، وربما دموع الفقر المريرة. حتى إن أطفال معظم أولئك الكادحين لم يروا في حياتهم علبة شوكولاتة، المنتج الذي يوفر آباؤهم، وأحياناً بمشاركة الأطفال أنفسهم، مادته الأولية بكدٍّ وجهد مضنيين كل يوم، من أجل سدّ الرمق، وحسب.
- مبادرات:
على الرغم من ذلك الإجحاف، ثمة مبادرات تهدف إلى توخي توازن أكثر، والسعي إلى إنصاف مزارعي الكاكاو في إطار ما يدعى "التجارة المنصفة". إذ انتقلت حبة الكاكاو من موطنها الأصلي في أميركا اللاتينية، التي لم تعد تنتج سوى عُشر المحصول العالمي، إلى مناطق أخرى من العالم. فمثلاً، يستحوذ الـ"كوت ديفوار" (ساحل العاج) على 43 في المئة من الإنتاج العالمي، وجارته غانا 13 في المئة، ونيجيريا (6 في المئة) والكايرون (4.5 في المئة). هكذا، تؤمن أفريقيا ثلثي إنتاج الكاكاو في العالم. ومن الدول المنتجة الأخرى، تحتلّ إندونيسيا المركز الثاني عالمياً، بعد ساحل العاج، حيث تنتج 15 في المئة. وهناك أيضاً جارتها ماليزيا وجزر غينيا الجديدة، بنسبة 1.5 في المئة لكل منهما. في معظم تلك البلدان، لاسيما الأفريقية، لم يتذوق العمال الزراعيون في حقل الكاكاو طعم الشوكولاتة يوماً، ولم يروا شكلها، لا هم ولا أولادهم، لا في العيد ولا قبله أو بعده.
- مزرعة فنزويلية ومصنع فرنسي:
وفي الحديث عن أميركا الجنوبية، باعتبارها "مهد" الشوكولاتة، فهي لا تزال تؤمن 10 في المئة من الإنتاج العالمي للكاكاو، مثلما ذكرنا. وظروف العاملين هناك، نوعاً ما، أفضل من زملائهم الأفارقة، لاسيما أنها تنتج نوعية كاكاو عالية، تباع بأسعار أعلى، يحبها ذواقة الشوكولاتة الرفيعة، ولا يأبهون بدفع ثمن أعلى من المنتجات العادية. إلى ذلك، يستفيد بعض مزارعي القارة من التوجه الثابت نحو المنتجات العضوية. فالكاكاو العادي عرضة لتقلبات السوق، ومضاربات البورصة، ما يلحق ضرراً كبيراً بمزارعيه الأفارقة والإندونيسيين. أما كاكاو المزارع العضوية، الصديقة للبيئة، وأغلبها في الأكوادر وفنزويلا، فيبدي شيئاً من "الصمود" إزاء تلك التقلبات. إذ ينتج وفق معايير نوعية صارمة، ويباع بأسعار أعلى إلى مصانع معينة في أوروبا.
وكمثال على ذلك النوع من التعاون، ومساره ومراحله المتعاقبة، نشير إلى مزرعة فنزويلية، تتعامل مع مصنع شوكولاتة معروف في فرنسا. تسمى المزرعة "بيدريغال إي تشواو". وتشتل في معظمها أشجار الكاكاو، واسمها العلمي "ثيوبروما كاكاوtheobroma cacao"، أي "طعام الآلهة" باللغة الإغريقية. وفي موسم نضج اللوزات، يجرى قطفها. واللوزات تشبه أحياناً البطيخ والشمام، من حيث الشكل الخارجي. لكنها، في الداخل، بعيدة كل البعد عنها. فتلك الثمار، اللوزات، هي التي تضم بقليات الكاكاو في حد ذاتها. في أي حال، تعزل اللوزات بحسب النوعية، وتنظف وتزال منها القشور، تمهييداً لاستخراج حبات الكاكاو، في حد ذاتها، وتخميرها وتجفيفها، ثمّ تنظيفها مجدداً، وتعبئتها وتغليفها، وأخيراً إرسالها إلى مصنع "فالرونا" للشوكولاتة الراقية، الواقع في جنوبي شرق فرنسا، تحديداً في ناحية "تان ليرميتاج" (في محافظة "لا دروم").
- عمليات تحويلية:
وفي المصنع، تتعرض حبات بقل الكاكاو لسلسلة عمليات تحويلية، من أجل الحصول على "زبد الكاكاو"، وهو عجينة تتعرض بدورها لعمليات أخرى. إذ يجرى تسخينها تسخيناً خفيفاً في وسط مغلق، لتحرير جزيئات خاصة، بغية الحصول على نكهة طبيعية قصوى. ثمّ تخضع لدورة حرارية خاصة، لإعطائها شكلاً هندسياً معيناً، تستقر عليه. وطبعاً، تضاف مواد معينة، بحسب النتيجة المنشودة، كالحليب والسكر وغيرهما. ثمّ يجرِ تقطيع قوالب الشوكولاتة، وتغليفها تغليفاً فاخراً، يغري الزبون، ثمّ إرسالها إلى الأسواق، لاسيما بعض عناوين البقالات الراقية. ومن أغرب منتجات مصنع "فالرونا" المذكور، هناك نوع من الشوكولاتة الأكثر مرارة في العالم. لكن منتجاته كلها تعدّ من النوعية الراقية، غالية الثمن، المخصصة لذواقة الشوكولاتة المتمرسين، في أوروبا وأميركا الشمالية، وحتى اليابان وسنغافورة وأستراليا، الذين لا يترددون في تخصيص مبالغ معتبرة لاستهلاكهم الشهري.
- هجرة نباتية:
ولا عجب أن تضم فنزويلا، البلد النفطي، مزارع كاكاو. فمنشأ بقل كاكاو الغابة، الذي كان نباتاً طبيعياً في البداية، هو غابات نهر "أورينوك" الأولى، في منطقة حوض الأمازون. ينحدر أهل تلك المنطقة من قوم "إنكاس"، السكان الأصليين في الأميركتين الوسطى والجنوبية، الذين اعتادوا منذ القدم على استخدام الكاكاو كعقار طبي وشراب منبه. لكنهم لم يبدؤوا بزراعته بشكل منظم إلا منذ بضعة قرون، بعدما أيقنوا أن له فضائل طبية كثيرة، وأنّه يصلح أيضاً علاجاً نفسياً للخجل المفرط. إلى ذلك، استعانوا بقشرة الشجرة لشفاء الإسهال والبواسير. الآن باتوا يزرعون أشجار الكاكاو على ضفاف نهر "نابو"، أحد روافد الأمازون. لكن معظمهم يبيع أبقالها بأسعار بخسة، لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من أثمان علب الشوكولاتة المغلفة الأنيقة المبيعة في الأسواق.
أمّا "هجرة" شجرة الكاكاو من موطنها في أميركا الجنوبية إلى أفريقيا، وبعض ربوع آسيا، فينبغي التذكير بأنها من فعل المستعمرين الأوروبيين. إذ تعرفوا إلى الكاكاو في مطلع القرن الـ16، عام 1502، إثر رحلة كريستوفر كلومبوس الرابعة إلى "العالم الجديد" وبعد سنوات عام 1519، كان البحار الإسباني هيرنان كورتس أول من فطن إلى الأهمية الاقتصادية للنبة حين لاحظ قوم "آزتك"، سكان المكسيك الأصليين، يستخدمون حباتها كعملة للمقايضة. وحالفه الحظ أكثر بعدما رآه أحد ملوكهم، فحسبه أحدَ "آلهتهم" بعث من جديد، فرحب به، وبجّله وكرّمه، ووهبه مزرعة كاكاو. وأثبتت دراسات حديثة أن قوم "المايا"، سكان أميركا الجنوبية الأصليين، كانوا يستعملون الكاكاو كشراب ساخن منذ 2600 عام، وربما أكثر. أما الأوروبيون من مستعمري "إسبانيا الجديدة" (المكسيك حالياً)، فاعتادوا إضافة سكر القصب وعطر المسك وماء زهر البرتقال إلى شراب الكاكاو، لتخفيف حدته وملاءمته لمذاقهم. وفي فرنسا، أدخلته الملكة النمساوية "آن"، بعد زواجها بالملك لويس الثالث عشر، في عام 1615.
لاحقاً، عام 1822، أدخل البرتغاليون النبتة إلى أرخبيل جزر "ساو تومي وبرينسيبي"، مستعمرتهم آنذاك، الواقعة في خليج غينيا، على بعد نحو 300 كيلومتر عن سواحل الغابون، بعدما جلبوها من منطقة الأمازون الأسفل، في البرازيل. وللعمل في مزارع الكاكاو الشاسعة التي أسسوها، استقدموا أيدي عاملة رخيصة من مستعمراتهم الأفريقية الأخرى، جزر الرأس الأخضر وأنغولا وموزامبيق. هكذا، مع بداية القرن العشرين، أصبح الأرخبيل أوّل مركز عالمي لزراعة الكاكاو، بحيث لقب "جزر شوكولاتة". ولا تزال الجزر، المستقلة منذ عام 1975، تعتمد اقتصادياً على الكاكاو، الذي يمثل 9 أعشار صادراتها. ثمّ انتقلت النبتة من "ساو تومي وبرينسيبي" إلى أفريقيا الغربية، لاسيما ساحل العاج، الذي بات يستأثر اليوم بأكثر من 4 أعشار الإنتاج العالمي، مثلما ذكرنا.