على الرغم من أن ريادة الأعمال تبدو مرتبطة دائما بفترة المراهقة والشباب المبكر، خصوصا بعد ظهور العديد من الأمثلة العالمية على غرار مارك زوكربيرغ الذي أسس "فيسبوك" وهو في التاسعة عشرة من عمره، وستيف جوبز الذي أسس "آبل" في سن الحادية والعشرين، وديفيد كارب الذي أسس منصّة "تمبلر" (Tumblr) وهو لم يكمل عامه العشرين بعد، فإن هذا الربط ليس صحيحا لدرجة التعميم باعتبار أن الكثير من الشركات العملاقة أسسها كهول في الأربعينيات وشيوخ في الستينيات والسبعينيات أيضا.
ومع ذلك، في سجّلات الريادة قصص ملهمة لبعض روّاد الأعمال المميزين عالميا الذين بدأوا مسيرتهم مبكرا ربما أكثر من المعتاد، حيث كانت تجاربهم الأولى في اقتحام عالم المال والأعمال تعود إلى فترة الطفولة، الأمر الذي كان له أثر كبير في تحديد مسار حياتهم فيما بعد بحصد نجاح هائل في هذا العالم ارتبط بثروات كبيرة وارتبط أيضا بأمثلة يُضـرب بها المثل ويُستقى من ورائها الدروس في تأهيل الأطفال لدخول هذا العالم مبكرا.
بداية إيكيا.. طفل صغير يبيع الثقاب في الريف
صورة لإينغفار كامبـراد (على اليسار) أثناء طفـولته التي بدأ فيها رحلته الريادية ببيع أعواد الثقاب
لا يزال اسم رائد الأعمال السويدي الأشهر "إينغفار كامبـراد" يتردد على الألسنة ويُضرب به الأمثال بين روّاد الأعمال والمتخصصين في شؤون الأعمال عموما على الرغم من رحيله مطلع العام الحالي عن عمر يناهز 91 عاما. السبب أن مؤسس شركة "إيكيـا" (IKEA) العالمية الشهيـرة في الأثاث لم يغادر الدنيا فقط بثـروة مليارية قدرتها بلومبيـرغ بنحو 48 مليـار دولار، وإنمـا لأنه غادر الدنيا تاركا وراءه إرثا رياديـا ملهما في العديد من الجوانب التي تفيد رواد الأعمال المبتدئين تحديدا.
واحد من أهم عناصـر حيـاته إلهاما أنه اقتحم عالم التجـارة وهو ابن خمس سنوات فقط. هو من مواليد العام 1926، وبدأ رحلة البيع والشراء في أوائل عقد الثلاثينيات عندما ترعرع في مزرعة ريفيـة في مدينة سويدية هامشية شهدت أولى علامات ريادة الأعمال في شخصيته، حيث بدأ الطفل يدور على منازل الجيران في القرية ليبيعهم "أعواد الثقاب". المدهش أنه حقق نجاحا كبيرا بمهارته في إقناع أهالي المدينة بالشراء منه، خصوصا أنه كان يبيع سلعــة مطلوبة للغاية للاستخدام اليومي أولا، ويبيعها بسعـر زهيد للغاية بشكل لا يمكن رفضـه.
كانت فكـرة الطفل حينئذ بسيطة: يذهب إلى ستوكهولم العاصمة ليشتري كميات كبيـرة من أعواد الثقــاب، ثم يعود إلى قريته الريفية الهامشية ليبيعها بشكل فـردي لأهالي القرية بثمن جيد جدا. لاحقا، ومع تنامي تجارته بدأ الطفـل في الدخول إلى بيع أشياء أخرى مثل الأسماك وأوراق الزينة، الأمر الذي أهّله في النهاية إلى افتتاح أول شركة صغيرة له وهو ابن 17 عاما تحت اسم "إيكيــا" (IKEA) -وهي اختصـار لأوائل الحروف من اسمه "Ingvar Kamprad"، وأول حرف لاسم المزرعة التي تربى فيها "Elmtaryd"، والقـرية المجاورة له "Agunnyard"- وخصص الشركة لتجارة بعض الأمور الكمـالية.
لاحقا، بدأ إينغفار كامبراد في تجـارة الأخشاب والأثاث عبــر شركته الصغيـرة "إيكيـا" والتي تنامت في العقود التالية لتصبح أكبر شركة أثاث في العالم، وليتحول إلى واحد من أقوى وأشهر مليارديرات العالم على الإطلاق الذين ارتبط اسمهم دائما بالعصـامية والبدء من الصفر.
وارن بافيت.. البراعة في بيع العلكة ستساعدك في المستقبل
تسعون مليار دولار هو حجم ثــروة رجل الأعمال الأميـركي الشهــير "وارن بافيت" الذي يمضي حثيثا إلى عامه التسعين كذلك. وارن بافيت يعتبر ثالث أغنى رجل على وجه الأرض بحسب قوائم أغنى أغنياء العالم وأشهر مستثمـر أميـركي في بورصة نيويورك ورئيس مجلس إدارة شركة بيركشاير هاثواي القابضة التي تملك عشرات الشركات العملاقة في مجالات متعددة.
على الرغم من أنه ينتمي إلى أسرة ميسورة إلى حد ما، فإن هذا لم يمنع بافيت من أن يبدأ حيـاته مبكرا للغاية في مجال التجارة، فكان يعمل وهو ابن ست سنـوات فقط على بيع علب "العلكـة" التي كان يحصـل عليها من متجـر جدّه الصغير في مدينة أوماها، ويقوم بتوزيعها على جيرانه وأصدقائه عبر تسويقها المباشر "طرق الأبواب". وفي المعتاد كانوا يشترون منه هذه المنتجـات إن لم يكن لجودتها، فبسبب إصراره على بيعها.
يذكر بافيت في سيرته الذاتية "كرة الثلج: وارن بافيت وتجارة الحياة" (The Snowball: Warren Buffett and the business of life) أن امرأة أعجبها ما يقوم به في هذا العمر المبكّـر، فطلبت منه أن تأخذ واحدة فقط من الحلويات التي يقدمها، لكنه رفض متعللا أنه لا يبيعها بشكل فردي، وأنها تباع على شكل علب مجتمعــة تضم عددا من الحلويات. أُعجبت به السيدة، ونقدته مبلغا أكبر مما كان يطلبه تشجيعا منها لسلوكه الجريء في البيع وهو في هذه العمر الصغير.
في الحادية عشرة من عمره، بدأ بافيت في العمل في السمسرة مساعدا لوالده الذي كان يمتهن هذه المهنة، وعندما وصل إلى سِنّ الرابعة عشرة كان يعمل على توزيع عدد من المنتجات بينها توزيع صحيفة الواشنطن بوست، وكان يجني من وراء عمله هذا مبلغ 175 دولارا الذي كان مبلغا كبيرا جدا بمعايير هذا الزمان في عقد الأربعينيات بالنسبة لمراهق في هذا العمـر. وعندما وصل للمرحلة الثانوية، استطاع أن يستثمــر الأموال والمدخرات التي جمعها من عمله مع والده إلى جانب عمله الخاص في شراء قطعة أرض زراعية صغيـرة بمبلغ 1200 دولار في نبراسكا.
أخيرا، عندما تخرّج وارن بافيت من الجامعة كان قد جمع مدخرات قيمتها نحو 9800 دولار، وهو مبلغ كبير للغاية بمعايير هذا الزمن يساوي بمعايير يومنا الحالي نحو 100 ألف دولار، كان هذا المبلغ هو القاعدة الأساسية التي ساعدته في دخول عالم الاستثمـار والأعمال مبكرا بمجرد إنهاء الجامعة.
مارك كوبان.. البداية كانت مع أكياس القمامة
بثروة تتجاوز ثلاثة مليارات ونصف، يحظى مارك كوبان بشهـرة طاغيـة في أوساط رجال الأعمال والمستثمـرين في أميركا، ليس فقط لمسيرته الريادية الطويلة التي بدأها مبكـرا، وليس لأنه مالك عدد من أهم وأكبر الشركات في أميركا، بل ربما لأنه واحد من أبرز الوجوه المشاركة في برنامج رواد الأعمال الشهير "شارك تانك" (Shark Tank) الذي يستعرض مجموعة من الأعمال الرياديـة أمام المستثمـرين الذين يموّلون هذه المشاريع.
مارك كوبان بدأ ولوج عالم الأعمال وهو في سِنّ الثانية عشــرة عندما بدأ في بيع أكياس القمامة. بدأ كل شيء عندما ذهب كوبان إلى والده في إحدى الليالي طالبا منه بعض المال لتمكينه من شراء حذاء رياضي باهظ الثمن -لاحقا مارك كوبان سيستثمـر بشكل أساسي في أنديـة كرة السلة الأميـركية التي يعشقها-، لكن والده كان يجلس مشغولا مع أصدقائه يلعب القمـار ويشرب الخمر، ورفض أن يعطيـه أي مال لشراء الحذاء.
لحسن الحظ أن أحد أصدقاء والده الجالسين على الطاولة ناداه، وأخبره أن لديـه شيئا مفيدا له. وبهدوء، قام بإخراج صندوق يحتوي على مجموعة من أكياس القمامة، وطلب منه أن يذهب ببيع هذه الأكياس إلى الناس ويأخذ ثمنها ويذهب لشراء الحذاء الرياضي الذي يتمناه! كانت هذه لحظة فاصلة في حياة كوبان كما أعلن في بودكاست إذاعي في استضافة شبكة بلومبيـرغ المعنية بتغطية الأمور الاقتصادية.
بدأ كوبان في بيع أكياس القمامة مقابل 6 دولارات فقط أمام 100 كيس، حيث بدأ في تسويق هذه الأكياس بشكل مباشر عبر طرق الأبواب (Door To Door) للجيران والأصدقاء، ولحسن الحظ أنه كان يستطيع بيع هذه الأكياس بسهـولة باعتبار أنها طلب أساسي لجميع الناس الذين يحتاجون إلى أكياس القمامة طول الوقت، ووجدوا أن أكياس قمامة كوبان تفي بالغرض خصوصا أنها كانت رخيصة الثمن.
كانت هذه هي التجـربة الأولى لمارك كوبان في عالم الأعمال، قبل أن يُنهي دراسته الجامعية ويعمل نادلا في أحد المطاعم، ثم يبدأ في مسيرته الوظيفية التي نقلته إلى بدء تأسيس شركته الأولى "مايكـرو سولوشنز" (Micro Solutions) التي أدخلته إلى عالم ريادة الأعمال من أوسع أبوابه ليستطيع تكوين ثروة هائلة لاحقا.
ريتشارد برانسون.. طفل يبيـع عصافير الزينة
السير ريتشارد برانسون يعتبر واحدا من أهم الأرقام الصعبة في عالم الأعمال العالمي، رجل الأعمال البريطاني مؤسس شركة "فيرجن" (Virgin) العمـلاقة التي تضم أكثر من 400 شركة تعمل في كافة المجالات حول العالم، تضم أكثر من 70 ألف موظف يعمـلون في مجالات الاتصالات والنقل والسياحة والفندقة والخدمات المالية والمشـروبات والصناعات الثقيلة والترفيه والموسيقى والتجزئة، وبالطبـع في مجال الخطـوط الجوية التي تعتبر من أشهر شركاتها على الإطلاق.
برانسون الذي تزيد ثـروته على خمسة مليارات دولار ويعتبر واحدا من أهم رموز الاقتصاد البريطاني، ربما قصة نجاح برانسون تحديدا واحدة من أكثر قصص النجاح ترديدا على الألسنة وضربا للأمثال، ربما لأنه كان الطفل "الأكثر غباء" في الفصل، وربما لأنه تم تشخيصه بمرض عسـر القراءة في سن مبكـرة ولم يكن يستوعب المعلومات البسيطة التي يستوعبها أقرانه، ولأنه كان يفشل في أي اختبار لقياس الذكاء مما دعاه لترك الدراسة تماما وهو في سن الخامسة عشرة.
ومع ذلك -وكما كتب برانسون عبر حسابه على موقع لينكيد إن- عندما بلغ برانسون عامه الحادي عشر، وعلى الرغم من كل المشاكل التي يعانيها في المدرسة والتعلم، بدأ نشاطه التجاري الأول في بيع عصافير الزينة بعد أن لاحظ تنامي هذه التجارة بين العائلات والأطفال وإمكانية تحقيق أرباح جيدة من ورائها. بدأ برانسون برفقة صديق طفولته المقرّب بتربيـة عصافير الزينة ورعاية تزاوجها لإنتاج المزيد منها في الفناء الخلفي لمنزل برانسون الذي كان في منطقـة ريفيـة ساعدته على تربية الطيور، ثم بدأ في بيع العصافير والببغاوات والطيور لأصدقائه في المدرسة بكميات كبيـرة لاحقا.
لم تكتمل تجربة برانسون في بيع العصافير والطيور بعد اكتشاف والديه بقيامه بتربيتها في فناء المنزل في عطلاته من المدرسة الداخلية التي كان مُلتحقا بها، خصوصا عندما طلب منهما أن يهتما برعاية الطيور! عندما عاد في إحدى المرات إلى منزله، وجد أن أمه قامت بفتح الأقفاص وأطلقت سراح العصافير جميعا رأفة بهم وسعيا منها لجعل ابنها أكثر تركيزا في دراسته بدلا من تربية الطيور، لتجهـض بذلك أول تجربة تجارية خاضها برانسـون في حياته والتي كانت شرارة حبه للتجـارة التي طوّرها لاحقا.
في سن الخامسة عشـرة عاد برانسـون مرة أخرى إلى عالم التجارة بإنشاء مجلّة طلابية حتى بعد أن تخلى عن الدراسة، أطلق عليها اسم "الطالب" (Student) وكان يقوم بإجراء مقابلات مع الطلاب في المدارس والجامعات، ويستعين بزملائه لكتابة هذه المقابلات. بعد عام واحد، استطـاع برانسـون أن يبدأ في جذب المعلنين لمجلته الصغيـرة، وهو ما كان انتصـارا معنـويا كبيرا له دفعه للاستمرار في عالم الأعمال بتأسيس متجر صغير لبيع التسجيلات الموسيقية أطلق عليه اسم "العذراء" (Virgin) والذي تحوّل لاحقا إلى إمبراطورية من مئات الشركات متعددة المجالات.
في النهاية، كما يقال دائما إن التعليم في الصغر مثل النقش على الحجر، فالأمر ينطبق أيضا على تعليم مبادئ ريادة الأعمال. الطفل الذي يبدأ حياته مبكرا في استكشاف هذا العالم غالبا تشتعل بداخله الرغبة في الاستمرار، ويقل خوفه من ولوج هذا العالم القائم أصلا على أساس المخاطرة والإبداع. بالتأكيد طفـل مشبّع بمهارات رياديـة سيكون لديه لاحقا الجرأة الأكبر لتأسيس مشروعاته وإدارتها مبكـرا بشكل يقوده إلى برّ الأمان، حتى لو مرّ بمراحل متعاقبة من الفشل.