على الرغم من الإجماع على أن التسويق هو الأساس الأول الذي يحدد نجـاح وفشل أي مشروع أو شركة مهما كان حجمها أو مجالها، فإنه -ومع هذه الأهمية- يظل بالنسبة للكثيرين مفهوما جدليا خاضعا لمتغيرات عديدة مثل الموهبة أو المهارة أو التصرفات الفردية غير المدروسة، بينما يعتبره المتخصصون في بعض الأحيان علما جامدا يتم تنفيذ منهجيـاته كما هي دون تطوير. دائما التسويق يسقط في هوّة ضبابية ما بين التنميط والتعقيد.
على مسرح "تيد" أُلقيت العديد من المحاضرات التي تروي قصصا مُلهمة عن التسويق من خلال مسوّقين محترفين ومؤسسي شركات ورواد أعمال. كل محاضرة من هذه المحاضرات تركّـز على شرح جوانب مختلفة من عالم التسويق، وتشكّل في مجملها دروسا مهمة لكل المشتغلين بهذا المجال سواء كانوا مبتدئين أو محترفين.
الاختراع سهل.. تسويق الاختراع يحتاج إلى الكثير من العمل!
الشائع بين روّاد الأعمال والمبتكـرين السعي وبذل كل الجهود لاستخراج فكـرة جديدة أو تقديم نموذج لمنتج أو خدمة مختلفة. وبعد الانتهاء منه، يشعر الجميع بالراحة، لقد قطعنا معظم الطريق، ولم يتبق لنا سوى الخطوة السهلة: تسويق المنتج. لتكون في انتظـارهم المفاجأة غير المتوقعة: ما أنجزوه بالفعل كان الخطوة السهلة، والتسويق هو الخطوة الأصعب التي تحتاج إلى عمل مضاعف!
على مسرح "تيد"، ولمدة خمس دقائق فقط، يقف دانييل شنيترز شارحا هذه الفكـرة بالتحديد. شنيتزر استطاع أن يتوصّل لاكتشاف منتج عبارة عن مصباح يعمل بالطاقة الشمسية يُباع بثمن زهيد لمناطق الأزمات والصراعات، واستهدف توزيعه وبيعه بين الريفيين في "هاييتي" المعروفة بالفقر والأزمات والكوارث الطبيعية. هنا، قابل شنيتزر مفاجأة غير متوقعة، المنتج الذي تصوّر أنه سيُباع بسهـولة فائقة لأنه يحلّ أزمة واضحة في السوق، يحتاج إلى جهد هائل لتسويقه، وهذه المصابيح لا تُباع من تلقاء نفسها. لا شيء يُباع من تلقاء نفسه.
في المحاضـرة يوضّح المتحدث نقطة شديدة الأهمية من الضـروري أن يعرفها كل مسوّق؛ وهي أن المُنتج يصبح عديم الفائدة عندما لا يفهم العميـل فائدته بالضبط. مهما كان المنتج ذكيا ويقدم قيمة مميزة للمستخدمين، يجب أن يتم تفعيل دور التسويق أيضا، ليس فقط لإيصال المنتج لهم، وإنما لإفهامهم مزايا المنتج أولا وتأهيلهم لاستيعابه بشكل كافٍ، خصوصا في المجالات ذات الطابع التقني غير المألوف لدى شرائح واسعة من المستخدمين في الأسواق.
ماذا علّمتني الفيزياء عن.. التسويق؟!
"أعمل في مجال التسويق، الذي أحبه، لكن غرامي الأول كان الفيزياء. الغرام الذي أودى بي إلى معلم مدرسة رائع، عندما كان لدي شعر أقل شيبا. لقد قام بتعليمي أن الفيزياء مادة جيدة لأنها تعلمنا أمورا كثيرة عن العالم من حولنا. وسأقضي الدقائق القليلة القادمة محاولا إقناعكم بأن الفيزياء يمكن أن تعلمنا شيئا عن التسويق".
للوهلة الأولى يبدو أن عنوان المحاضـرة التي ألقاها "دان كوبلي" مدير التسويق في غوغل على مسرح "تيد" في العام 2010 عنوانا عبثيا. ما الذي يمكن أن يجمع الفيزياء بالتسويق أصلا، فضـلا عن التأثير بينهما؟ في ذهن الكثيرين كلا المجالين يمثلان دائرتين مبتعدتين عن بعضهما تماما ولا يوجد بينهما أدنى علاقة، الفيزياء هي أم العلوم المادية، بينما التسويق هو أبو العلوم الاجتماعية والإنسانيـة. ما نقاط الالتقاء الممكنة؟
المحاضرة التي حققت قرابة مليون ونصف المليون مشاهدة على منصة "تيد" الرسمية سلّط المتحدث الضوء من خلالها على ثلاثة قوانين فيزيائية، وقام بإسقاط مبادئها على عالم التسويق: القانون الثاني من قوانين نيوتن، مبدأ عدم اليقين لهايزنبرغ، والقانون الثاني للدينـاميكـا الحرارية! كل قانون من هذه القوانين الفيزيائية البحتة يرى المُحاضـر أن لها إسقاطات تسويقية ممتازة، ويعطي بعض الأمثلة الواضحة لشركات سمّاها بأسمـائها قامت -بعلم أو دون علم- بتطبيق هذه القوانين في أذرعها التسويقية. المحاضـرة تعتبر من أشهر محاضرات "تيد" التي أُلقيت في مجال التسويق، وتشمل أفكارا رائعـة في الربط بين المجالين بشكـل طريف وسلس على مدار سبع دقائق مركّزة هي مدة المحاضرة كاملة.
كيف تنتشر الأفكار؟
"لا يهم على الإطلاق إذا كنت تدير مقهى أو إذا كنت مثقفا أو جاهلا، أو تدير أعمالا، أو تدير مناطيد تعمل بالهواء الساخن. نحن نعيش في عصر "انتشار الأفكـار" والجميع قادر على نشر أفكـاره بغض النظر عن ماذا يفعلون ومستوى ثقافتهم وإبداعهم. بل حتى بغض النظر عن ماهية تلك الأفكـار جيدة أو سيئة، مفيدة أو مضرّة. وينجحون"
محاضـرة ذائعة الشهـرة أُلقيت على مسرح "تيد" في العام 2003، قبل سنوات من الطفـرة الكبرى لعالم منصات التواصل الاجتماعي والمشروعات الناشئة التي غيّرت وجه العالم في زمن قياسي. المحاضـرة يلقيها سيث غودين رائد الأعمال والمسوّق والمدوّن المهتم بعالم الأفكـار الإبداعية في عصر السوق الرقمي الذي بدأ بأوضح صوره في مطلع الألفية، وحقق في السنوات التالية ما يمكن تسميته بطفـرة لم تشهدها البشرية سابقا.
يقرر سيث غودين حقيقـة عصرية: في عالم مليء بخيارات كثيرة جدا ووقت محدود، من المهم التركيز على الأفكـار المجنونة وتجاهل الأشياء العادية. هذا العصـر لم يعد يتحمّل تكرار الأفكـار نفسها بالطريقة نفسها -وإن كان من الممكن نجاح الأفكـار التقليدية قطعا-. الأفكـار التي لها دائما بُعد مثير للاهتمام وبعيدة عن التكرار والنمطية هي التي تحظى بشكل أكبر من الانتشار بمجهود أقل. ومع ذلك، تبقى علامة الاستفهام المرتبطة بالكيفية: كيف تنتشر الأفكار؟ كيف تتحول فكـرة مشروع بسيط إلى مشروع عالمي في زمن قياسي؟ كيف يمكن لشركة ناشئة أن تستحوذ على الأسواق في غضون سنوات؟
ربع ساعة من الحديث عن الكيفيات المدعومة بالأمثلة، كانت جديرة بتحقيق قرابة ستة ملايين مشاهدة على منصة "تيد" الرسمية، وأن يتم اعتبارها من أهم المحاضرات التي ينبغي أن يشاهدها المسوّقون، حتى لو كان قد مرّ على إلقائها أكثر من خمسة عشـر عاما.
دروس من فم رجل إعلانات
"أدركت بعد سنوات من العمل في الإعلانات أننا نصنع عن طريق الإعلانات شيئا يُدعى "قيمة غير ملموسة"، أو يمكن تسميتها "قيمة متصورة"، أو يمكن تسميتها "قيمة للعلامة التجارية "، أو "قيمة وهمية".. فكّـر في موسيقى الراب الفاشلة، هل لها أي قيمة حقيقية؟ لا، إنها قيمة غير ملموسة لا أكثر"
في عالم اليوم، هناك مستهلك يقف أمام المدفع، وهناك مسوّق يقف مرابضا خلف المدفع هو المسؤول عن توجيهه لإصابة المستهلك. معظمنا يعيش أمام المدفع، نرصد آلاف الإعلانات والمنتجات والخدمات التي تحثنا دائما على الشراء والاستهلاك، ولا نكاد نعرف بالضبط كواليس ما يدور وراء المدفع.
في هذه المحاضرة، يأتي أحد المخضرمين الواقفين وراء المدفع ليشرح لنا ما يدور في الكواليس. روي سوترلاند أمضى عمره كاملا تقريبا في العمل كرجل إعلانات محترف، استطاع أن يعمل في العديد من المشروعات كمسوّق وبائع، واحترف توجيـه عيون المستهلكين إلى منتجات وسلع مختلفة لإقنـاعهم بروعتها من ناحية، ولاستخلاص الأموال من جيوبهم من ناحية أخرى لإقناعهم بالشراء.
في هذه المحاضـرة التي أُلقيت في العام 2009 وحصدت أكثر من 3 ملايين مشاهدة، يستعرض المحاضر مجموعة من أهم الأفكـار التي استخلصها من عالم الإعلانات، ويقدمها على طبق من فضّـة. هذه الأفكـار ستجعلك أكثر فهما لما يدور حولك،ليس فقط على مستوى التجارة والإعلانات، بل على مستوى إقناعك بالأفكـار العامة المحيطة بك وتوجيـه آرائك وقناعاتك طوال الوقت. محاضـرة شديدة الأهميـة للمسوّق، وشديدة الأهمية للمستهلك أيضا بالقدر نفسه.
كيف تجعل الاختيار أكثر سهولة؟
"هل تعرف كم اختيارا تقوم به في اليوم؟ هل تعلم كم اختيارا تقوم به في الأسبوع؟ مؤخرا قمت بعمل استطلاع على نحو 2000 أميركي، فوجدت أن متوسط عدد الاختيارات التي يقوم بها المواطن الأميـركي العادي يوميا نحو سبعين خيارا في كافة مجالات الحياة"
واحدة من أهم المحاضرات التسويقية على الإطلاق التي أُلقيت على مسرح "تيد"، ولقيت صدى واسعا من المهتمين بهذا المجال، واحتلت مكانا دائما في قوائم ترشيحات هذه النوعية من المحاضرات. المحاضرة أُلقيت في العام 2011، وحققت مشاهدات تزيد على مليوني ونصف مليون مشاهدة.
شينا لينجر تطرح سؤالا نواجهه جميعا بدون استثناء: إذا قمت بدخول مجمع تجاري ووجدت نفسك بصدد 700 خيار لشراء 700 منتج يقوم بأداء المهمة نفسها، ما أول رد فعل ستشعر به؟ بالتأكيد سيكون التجمّد. التجمّد النابع عن حيـرة كثرة الاختيارات المتاحة التي ستورثك الارتباك أولا، ثم الشعور بالنفــور والرغبة في الانصراف وعدم الشراء، وربما الشعور ببعض التلفيق أيضا. كثــرة الاختيارات هي أكثر الوسائل التي تقودك إلى الامتناع عن اتخاذ القرار، أو على الأقل استهلاك وقت طويل جدا في دراسة قرارك قبل اتخاذه، وهو الذي يجعل كليكما (المستهلك والمسوّق) خاسرين في النهاية.
ربما واحد من أهم مبادئ التسويق على الإطلاق هو ألا تجعل عميلك يشعر بالحيرة من كثرة الخيارات، وأن تضع أمامه عددا محدودا منها بشكل لا يجعله ينفر من الأمر كله. وإذا كنت مضطرا إلى عرض عدد كبير من الخيارات أمامه، فمن الواجب عرضها بشكل بسيط ومنظم وذكي يجعل عين الزبون تشعر بالفضول لمعرفة التفاصيل أكثر وليس الضيق من تنوّعها أمامه.
لماذا الاستثمار في الأحذية يُعد فكرة عظيمة؟
تعتبر هذه المحاضـرة التي أُلقيت على مسرح "تيد" في العام 2015 وحققت ما يقارب مليوني مشاهدة من أهم المحاضرات التسويقية التي تركز على "دراسة حالة" (Case Study) ثابتة وهي سوق الأحذية الرياضية. جوش لوبر ليس مجرد رائد أعمال قام بتأسيس شركة أحذية رياضية، وإنما هو في الأساس مهووس بالأحذية الرياضية منذ طفولته، وهو الأمر الذي قاده لتطبيق كافة مفاهيم الريادة التي تعلّمها في هذا السوق تحديدا.
الحديث هنا بشكل أساسي ينصب حول شركة "نايكي" (Nike) العالمية الشهيرة المُصنّعة للأحذية. الواقع أن الشركة في الثمانينيات كانت في صراع مرير مع عدد من الشركات الأخرى، ولم ينقذها ويحقق لها الطفرة الكبرى في المبيعات سوى إنتاج نوع واحد من الأحذية تم إطلاق اسم "Air Jordan" عليه بناء على حملة تسويقية مميزة استعانت بها الشركة بالنجم الأميـركي الأسمر والأشهر في عالم كرة السلة "مايكل جوردان". صحيح أن الحذاء كان جيدا جدا في إمكانياته، ولكن المرتكز الرئيس الذي حقق للشركة هذا النجاح كان تطبيقها خطة تسويقية ممتازة.
المحاضرة تركز على الجوانب التسويقية والاستثمـارية في سوق الأحذية الرياضية، ويشرح فيها جوش لوبر في حديث فكـاهي ماتع مجموعة من المبادئ والأسس التي يمكن أن يتم تطبيقها على كافة الأسواق، وأيضا مجموعة من المبادئ لاستقراء صعود أسواق معينة وكيفية التعامل مع هذا الرصد واستغلال أفضل الفرص للاستفادة منه. بمعنى آخر، المحاضرة تركز على "الاستثمـار" و"التسويق" بناء على تحليل الأسواق ومتطلباتها بشكل صحيح.
في النهاية، تظـل القاعدة الأشهــر لدى روّاد الأعمال ومؤسسي الشركات على مرّ العصور هي: قبل أن تطلق شركتك أو مشروعك اعرف أولا كيف تسوّق له، كيف تصل (Reach) إلى الشريحة المستهدفة، وكيف تتواصل (Communicate) معها. أما إذا أطلقت مشروعا أو منتجا عبقريا وأنت لا تعرف كيفية الوصول أو التواصل، فالمؤكد أنه سيبقى حبيس الفشل مهما كان مُبدعا.